الوهابية بين طه حسين والعقاد...


كنتُ قد وقفتُ على كلام للدكتور طه حسين، والأديب الكبير عباس العقاد حول الوهابية، ولَمَّا كان كل من الأديبين الكبيرين محل تقدير عند أدباء العصر الحالي ومن الصعب على أي كاتب كبر شأنه أم صَغُر أن يتهم الأديبين الكبيرين بالعمالة للوهابية؛ لأن الوقت الذي كتب فيه كل من الدكتور طه حسين والعقاد رأيهما عن الوهابية لم يكن فيه الريال الوهابي قد اشتد عوده واستوى، وإنَّما الطفرة البترولية الوهابية وليدة عشرين سنة على أكثر تقدير، كما أنه من المعروف عن عقلية كل من الدكتور طه حسين والعقاد ومدى استقلالهما وجرأتهما في طرح أفكارهما، ورغم التباين بين طه حسين والعقاد واختلافهما في كثير من القضايا الثقافية والأدبية ولكل مدرسته ولكل أتباعه إلاَّ أن رأيهما حول الوهابية كان متوافقًا، فماذا قال الأديبان الكبيران عن الوهابية؟

أولاً: كتب الدكتور طه حسين مقالاً في مجلة (الهلال) عدد مارس (1933م) الموافق ذي الحجة (1351هـ) تحت عنوان (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) ما يلي:

«إن الباحث عن الحياة العقلية الأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يُهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالَم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارًا خطيرة هان شأنها بعض الشيء ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضًا، هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب شيخ من شيوخ نَجد.

نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على يد أبيه، ثم رحل إلى العراق، فسمع من علماء البصرة وفقهائها، وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معًا، فسخط عليه الناس وأُخْرِجَ من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك، فعاد إلى نَجد وأقام مع أبيه حينًا يُناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه، وانقسم الناس فيه قسمين فكان له الأنصار، وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنشر، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبًا رسميًا يعتمد على قوة السياسة تؤيده وتحميه بل تنشره في أقطار نَجد بالدعوة اللينة حينًا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها».

 
وقال طه حسين:
«قلت: إن هذا المذهب الجديد قديم، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر؛ لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده، ملغيًا كل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله ويعظمون الأشجار والأحجار، ويرون أن لَها من القوة ما ينفع ويضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة، وأصبح الدين اسمًا لا مُسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يَجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قومًا مسلمين حقًّا على نحو ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا.

«ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نَجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هـاجر إلى الـدرعية وبايعه أهلها على النصر كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود، واشتغل هو بالعلم والدين، واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنعَ عليه أغرى به السيف وشب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نَجد لهذا المذهب وأخلصوا له وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي صلى الله عليه وسلم وهاجروا معه.

«ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوى وأسلحةٍ لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدًّا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول، ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيمًا خطيرًا من نواح مُختلفة، فهو أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلاً أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم والسنان، وهو قد لفت المسلمين جميعًا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب». اهـ


ثانيًا: كتب الأديب العملاق عباس محمود العقاد في كتابه (الإسلام في القرن العشرين) (ص85- 86) ما يلي:

«النهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة بالدعوة الوهابية التي تُنسب للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبدأت نحو هذا الوقت في اليمن بدعوة الإمام الشوكاني صاحب كتاب (نيل الأوطار) وكلاهُما يُنادي بالإصلاح على نهج واحد وهو العود إلَى السنن القديم، ورفض البدع والمستحدثات في غير هوادة.

وإنما تسامع الناس بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وظلت الدعوة الشوكانية مقصورة على قراءة كتب الفقه والحديث؛ لأن الوهابيين اصطدموا بجنود الدولة العثمانية في إبَّان حربها مع الدول الأوربية التي اتفقت على تقسيمها......

إلَى أن قال العقاد
: ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثًا في الجزيرة العربية ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجاز وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن سمعوا أن علة الهزائم التي تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وإنهم خلقاء أن يستجدوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه». اهـ

قلت:

هذا ما قاله الأديبان الكبيران في الدعوة الوهابية، وقد تعمدت أن أبتعد عن المضمون الشرعي وأدلته التفصيلية للرد على المتحاملين على الوهابية في الوقت الذي كثر المادحون للشيعية الإيرانية واكتفيت بكلام شخصيتين محل تقدير عند رجال الصحافة والأدب والثقافة بصفة عامة، أمَّا عن حقيقة هذه الدعوة وأصولها فنرجئه فيما بعد حتى لا ننشغل عن ملف الشيعة ثم ملف القطبية، كما لابد من التنبيه على أن القتال المذكور في كلام الأديبين الكبيرين ليس قتال أفراد ضد سلطة أو حكومة وإنما قتال تحت ولاية شرعية لإمارة شرعية حتى لا يلتبس على البعض فيشبه ذلك بقتال الإرهابيين الذين أحدثوا الفتن في المجتمعات ضد الحكومات الرسمية الشرعية في مصر وغيرها من بلاد المسلمين، كما لابد من ملاحظة ظروف هذه المعارك من حيث الزمان والمكان والأقوال لأنها كانت لتوحيد البلاد على النحو الذي انتهى إلى مملكة كبيرة على قلب رجل واحد بعد أن كانت قبائل متناحرة تعيش على القتال بينها والسلب والنهب.

كما أحب أن أؤكد هنا أن الوهابية كدعوة إصلاحية يؤخذ منها ويُرد لأن صاحبها غير معصوم، فمن كان عنده دليل صريح ثابت لمخالفة محمد بن عبد الوهاب لأصول أهل السنة والجماعة فحياه الله وجزاه الله خيرًا على تبصرتنا، وعلى دعاة الوهابية إن ثبت الدليل الشرعي وتعارض مع دعوتهم في أصل أو فرع أن يرجعوا إلى الدليل وترك ما ثبت خطأهم فيه إعمالاً بالقاعدة الذهبية للإمام مالك -رحمه الله-: (كلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلاَّ صاحب هذا المقام، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم).



المصدر من موقع الشيخ محمود لطفي عامر حفظه الله تعالى.

هناك تعليق واحد: